الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)} يروى في سبب نزول هذه السورة أن قريشاً اجتمعت في دار الندوة تدبر كيدها للنبي صلى الله عليه وسلم وللدعوة التي جاءهم بها. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتم له؛ والتف بثيابه وتزمل ونام مهموماً. فجاءه جبريل عليه السلام بشطر هذه السورة الأول {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً.. الخ} وتأخر شطر السورة الثاني من قوله تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل..} إلى آخر السورة. تأخر عاماً كاملاً. حين قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة من الذين معه، حتى ورمت أقدامهم، فنزل التخفيف في الشطر الثاني بعد اثني عشر شهراً. وتروى رواية أخرى تتكرر بالنسبة لسورة المدثر كذلك كما سيجيء في عرض سورة المدثر إن شاء الله. وخلاصتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحنث في غار حراء قبل البعثة بثلاث سنوات أي يتطهر ويتعبد وكان تحنثه عليه الصلاة والسلام شهراً من كل سنة هو شهر رمضان يذهب فيه إلى غار حراء على مبعدة نحو ميلين من مكة، ومعه أهله قريباً منه. فيقيم فيه هذا الشهر، يطعم من جاءه من المساكين، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون، وفيما وراءها من قدرة مبدعة.. وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة، وتصوراتها الواهية، ولكن ليس بين يديه طريق واضح، ولا منهج محدد، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه. وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفاً من تدبير الله له ليعده لما ينتظره من الأمر العظيم. ففي هذه العزلة كان يخلو إلى نفسه، ويخلص من زحمة الحياة وشواغلها الصغيرة؛ ويفرغ لموحيات الكون، ودلائل الإبداع؛ وتسبح روحه مع روح الوجود؛ وتتعانق مع هذا الجمال وهذا الكمال؛ وتتعامل مع الحقيقة الكبرى وتمرن على التعامل معها في إدراك وفهم. ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى.. لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض، وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة. لا بد من فترة للتأمل والتدبر والتعامل مع الكون الكبير وحقائقه الطليقة. فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له، فلا تحاول تغييره. أما الانخلاع منه فترة، والانعزال عنه، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير، ومن الشواغل التافهة فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر، ويدربه على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس، والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العرف الشائع! وهكذا دبر الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى، وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ. . دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات. ينطلق في هذه العزلة شهراً من الزمان، مع روح الوجود الطليقة، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله. فلما أن أذن، وشاء سبحانه أن يفيض من رحمته هذا الفيض على أهل الأرض، جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء.. وكان ما قصه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره معه فيما رواه ابن إسحق عن وهب بن كيسان، عن عبيد، قال: «فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال: أقرأ. قال: قلت: ما أقرأ (وفي الروايات: ما أنا بقارئ) قال: فغتني به (أي ضغطني) حتى ظننت أنه الموت. ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أقرأ. قال: فغتني حتى ظننت أنه الموت. ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أقرأ: قال: فغتني حتى ظننت أنه الموت. ثم أرسلني فقال: اقرأ. قال: قلت: ماذا أقرأ؟ قال: ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي. فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذى علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم}.. قال: فقرأتها. ثم انتهى فانصرف عني. وهببت من نومي فكأنما كتبت في قلبي كتاباً. قال: فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فرفعت رأسي إلى السماء أنظر. فإذا جبريل في صورة رجل، صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فوقفت أنظر إليه. فما أتقدم وما أتأخر. وجعلت أحول وجهي عنه في آفاق السماء. قال: فلا أنظر في ناحية إلا رأيته كذلك. فما زلت واقفاً ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة، ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك. ثم انصرف عني وانصرفت راجعاً إلى أهلي، حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها (أي ملتصقاً بها مائلاً إليها) فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فوالله لقد بعثت في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إليّ. ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت:» أبشر يا بن عم واثبت. فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة « ثم فتر الوحي مدة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن كان بالجبل مرة أخرى فنظر فإذا جبريل، فأدركته منه رجفة، حتى جثى وهوى إلى الأرض، وانطلق إلى أهله يرجف، يقول: «زملوني. دثروني» ففعلوا. وظل يرتجف مما به من الروع. وإذا جبريل يناديه: {يا أيها المزمل}.. (وقيل: يا أيها المدثر) والله أعلم أيتهما كانت. وسواء صحت الرواية الأولى عن سبب نزول شطر السورة. أو صحت هذه الرواية الثانية عن سبب نزول مطلعها، فقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم- أنه لم يعد هناك نوم! وأن هنالك تكليفاً ثقيلاً، وجهاداً طويلاً، وأنه الصحو والكد والجهد منذ ذلك النداء الذي يلاحقه ولا يدعه ينام! وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم {قم}.. فقام. وظل قائماً بعدها أكثر من عشرين عاماً! لم يسترح. ولم يسكن. ولم يعش لنفسه ولا لأهله. قام وظل قائماً على دعوة الله. يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به. عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض. عبء البشرية كلها، وعبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى. حمل عبء الكفاح والجهاد في ميدان الضمير البشري الغارق في أوهام الجاهلية وتصوراتها، المثقل بأثقال الأرض وجواذبها، المكبل بأوهاق الشهوات وأغلالها.. حتى إذا خلص هذا الضمير في بعض صحابته مما يثقله من ركام الجاهلية والحياة الأرضية بدأ معركة أخرى في ميدان آخر.. بل معارك متلاحقة.. مع أعداء دعوة الله المتألبين عليها وعلى المؤمنين بها، الحريصين على قتل هذه الغرسة الزكية في منبتها، قبل أن تنمو وتمد جذورها في التربة وفروعها في الفضاء، وتظلل مساحات أخرى.. ولم يكد يفرغ من معارك الجزيرة العربية حتى كانت الروم تعدّ لهذه الأمة الجديدة وتتهيأ للبطش بها على تخومها الشمالية. وفي أثناء هذا كله لم تكن المعركة الأولى معركة الضمير قد انتهت. فهي معركة خالدة، الشيطان صاحبها؛ وهو لا يني لحظة عن مزاولة نشاطه في أعماق الضمير الإنساني.. ومحمد صلى الله عليه وسلم قائم على دعوة الله هناك. وعلى المعركة الدائبة في ميادينها المتفرقة. في شظف من العيش والدنيا مقبلة عليه. وفي جهد وكد والمؤمنون يستروحون من حوله ظلال الأمن والراحة. وفي نصب دائم لا ينقطع.. وفي صبر جميل على هذا كله. وفي قيام الليل. وفي عبادة لربه، وترتيل لقرآنه وتبتل إليه، كما أمره أن يفعل وهو يناديه: {يا أيها المزمل. قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا. إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا. إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا. إن لك في النهار سبحاً طويلا. واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا. واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلا}. وهكذا قام محمد صلى الله عليه وسلم وهكذا عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاماً. لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد. منذ أن سمع النداء العلوي الجليل وتلقى منه التكليف الرهيب.. جزاه الله عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء.. وشطر السورة الأول يمضي على إيقاع موسيقي واحد. ويكاد يكون على روي واحد. هو اللام المطلقة الممدودة. وهو إيقاع رخي وقور جليل؛ يتمشى مع جلال التكليف، وجدية الأمر، ومع الأهوال المتتابعة التي يعرضها السياق.. هول القول الثقيل الذي أسلفنا، وهول التهديد المروّع: {وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً، إن لدينآ أنكالاً وجحيماً، وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً}.. وهول الموقف الذي يتجلى في مشاهد الكون وفي أغوار النفوس: {يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيباً مهيلاً}.. {فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً، السمآء منفطر به، كان وعده مفعولاً}. فأما الآية الآخيرة الطويلة التي تمثل شطر السورة الثاني؛ فقد نزلت بعد عام من قيام الليل حتى ورمت أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم وطائفة من الذين معه. والله يعدّه ويعدّهم بهذا القيام لما يعدّهم له! فنزل التخفيف، ومعه التطمين بأنه اختيار الله لهم وفق علمه وحكمته بأعبائهم وتكاليفهم التي قدرها في علمه عليهم.. أما هذه الآية فذات نسق خاص. فهي طويلة وموسيقاها متموجة عريضة، وفيها هدوء واستقرار، وقافية تناسب هذا الاستقرار: وهي الميم وقبلها مد الياء: {غفور رحيم}. والسورة بشطريها تعرض صفحة من تاريخ هذه الدعوة. تبدأ بالنداء العلوي الكريم بالتكليف العظيم. وتصور الإعداد له والتهيئة بقيام الليل، والصلاة، وترتيل القرآن، والذكر الخاشع المتبتل. والاتكال على الله وحده، والصبر على الأذى، والهجر الجميل للمكذبين، والتخلية بينهم وبين الجبار القهار صاحب الدعوة وصاحب المعركة!.. وتنتهي بلمسة الرفق والرحمة والتخفيف والتيسير. والتوجيه للطاعات والقربات، والتلويح برحمة الله ومغفرته: {إن الله غفور رحيم}.. وهي تمثل بشطريها صفحة من صفحات ذلك الجهد الكريم النبيل الذي بذله ذلك الرهط المختار من البشرية البشرية الضالة، ليردها إلى ربها، ويصبر على أذاها، ويجاهد في ضمائرها؛ وهو متجرد من كل ما في الحياة من عرض يغري، ولذاذة تُلهي، وراحة ينعم بها الخليون. ونوم يلتذه الفارغون! والآن نستعرض السورة في نصها القرآني الجميل. {يا أيها المزمل. قم الليل إلا قليلاً. نصفه أو انقص منه قليلاً، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً. إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً. إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلاً. إن لك في النهار سبحاً طويلاً، واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً. رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً}.. {يا أيها المزمل. قم. .}.. إنها دعوة السماء، وصوت الكبير المتعال.. قم.. قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك. قم للجهد والنصب والكد والتعب. قم فقد مضى وقت النوم والراحة.. قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد.. وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه صلى الله عليه وسلم من دفء الفراش، في البيت الهادئ والحضن الدافئ. لتدفع به في الخضم، بين الزعازع والأنواء، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء. إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً، ولكنه يعيش صغيراً ويموت صغيراً. فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير.. فماله والنوم؟ وماله والراحة؟ وماله والفراش الدافئ، والعيش الهادئ؟ والمتاع المريح؟! ولقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة الأمر وقدّره، فقال لخديجة رضي الله عنها وهي تدعوه أن يطمئن وينام: «مضى عهد النوم يا خديجة» ! أجل مضى عهد النوم وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق! {يا أيها المزمل. قم الليل إلا قليلاً. نصفه أو انقص منه قليلاً. أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً}.. إنه الإعداء للمهمة الكبرى بوسائل الإعداد الإلهية المضمونة.. قيام الليل. أكثره أكثر من نصف الليل ودون ثلثيه. وأقله ثلث الليل.. قيامه للصلاة وترتيل القرآن. وهو مد الصوت به وتجويده. بلا تغن ولا تطر ولا تخلع في التنغيم. وقد صح عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل أنه لم يتجاوز إحدى عشرة ركعة. ولكنه كان يقضي في هذه الركعات ثلثي الليل إلا قليلاً، يرتل فيه القرآن ترتيلاً. «روى الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا يحيى بن سعيد هو ابن أبي عروبة عن قتادة، عن زرارة ابن أوفى، عن سعيد بن هشام.. أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال: ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: ائت عائشة فسلها، ثم ارجع إلي فأخبرني بردها عليك.. ثم يقول سعيد بن هشام: قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن خلق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان القرآن. فهممت أن أقوم، ثم بدا لي قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ألست تقرأ هذه السورة: {يا أيها المزمل}؟ قلت: بلى. قالت: فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة؛ فقام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم. وأمسك الله ختامها في السماء اثني عشر شهراً. ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعاً من بعد فريضة.. فهممت أن أقوم، ثم بدا لي وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم- قالت: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله كما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوّك ثم يتوضأ، ثم يصلي ثمان ركعات لا يجلس فيهن، إلا عند الثامنة، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو، ثم ينهض وما يسلم، ثم يقوم ليصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله وحده، ثم يدعوه، ثم يسلم تسليماً يسمعنا. ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني، فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ اللحم أوتر بسبع ثم صلى ركعتين وهو جالس بعدما يسلم، فتلك تسع يا بني. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها. وكان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع أو مرض صلى من نهار اثنتي عشرة ركعة. ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة حتى أصبح، ولا صام شهراً كاملاً غير رمضان.. « وكان هذا الإعداد للقول الثقيل الذي سينزله الله عليه.. {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً}.. هو هذا القرآن وما وراءه من التكليف.. والقرآن في مبناه ليس ثقيلاً فهو ميسر للذكر. ولكنه ثقيل في ميزان الحق، ثقيل في أثره في القلب: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله} فأنزله الله على قلب أثبت من الجبل يتلقاه.. وإن تلقي هذا الفيض من النور والمعرفة واستيعابه، لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل. وإن التعامل مع الحقائق الكونية الكبرى المجردة، لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل. وإن الاتصال بالملأ الأعلى وبروح الوجود وأرواح الخلائق الحية والجامدة على النحو الذي تهيأ لرسول الله صلى الله عليه وسلم لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل. وإن الاستقامة على هذا الأمر بلا تردد ولا ارتياب، ولا تلفت هنا أو هناك وراء الهواتف والجواذب والمعوقات، لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل. وإن قيام الليل والناس نيام، والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفسافها؛ والاتصال بالله، وتلقي فيضه ونوره، والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه، وترتيل القرآن والكون ساكن، وكأنما هو يتنزل من الملأ الأعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة؛ واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته وفي الليل الساجي.. إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل، والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل! وينير القلب في الطريق الشاق الطويل، ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير. {إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً}.. {ناشئة الليل} هي ما ينشأ منه بعد العشاء؛ والآية تقول: {إن ناشئة الليل هي أشد وطأ}: أي أجهد للبدن، {وأقوم قيلاً}: أي أثبت في الخير (كما قال مجاهد) فإن مغالبة هتاف النوم وجاذبية الفراش، بعد كد نهار، أشد وطأ وأجهد للبدن؛ ولكنها إعلان لسيطرة الروح، واستجابة لدعوة الله، وإيثار للأنس به، ومن ثم فإنها أقوم قيلاً، لأن للذكر فيها حلاوته، وللصلاة فيها خشوعها، وللمناجاة فيها شفافيتها. وإنها لتسكب في القلب أنساً وراحة وشفافية ونوراً، قد لا يجدها في صلاة النهار وذكره.. والله الذي خلق هذا القلب يعلم مداخله وأوتاره، ويعلم ما يتسرب إليه وما يوقع عليه، وأي الأوقات يكون فيها أكثر تفتحاً واستعداداً وتهيؤاً، وأي الأسباب أعلق به وأشد تأثيراً فيه. والله سبحانه وهو يعد عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ليتلقى القول الثقيل، وينهض بالعبء الجسيم، اختار له قيام الليل، لأن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً. ولأن له في النهار مشاغله ونشاطه الذي يستغرق كثيراً من الطاقة والالتفات: {إن لك في النهار سبحاً طويلاً}.. فلينقض النهار في هذا السبح والنشاط، وليخلص لربه في الليل، يقوم له بالصلاة والذكر: {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً}.. وذكر اسم الله، ليس هو مجرد ترديد هذا الإسم الكريم باللسان، على عدة المسبحة المئوية أو الألفية! إنما هو ذكر القلب الحاضر مع اللسان الذاكر؛ أو هو الصلاة ذاتها وقراءة القرآن فيها. والتبتل هو الانقطاع الكلي عما عدا الله، والاتجاه الكلي إليه بالعبادة والذكر، والخلوص من كل شاغل ومن كل خاطر، والحضور مع الله بكامل الحس والمشاعر. ولما ذكر التبتل وهو الانقطاع عما عدا الله، ذكر بعده ما يفيد أنه ليس هناك إلا الله، يتجه إليه من يريد الانجا. {رب المشرق والمغرب، لا إله إلا هو، فاتخذوه وكيلاً}.. فهو رب كل متجه.. رب المشرق والغرب.. وهو الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو. فالانقطاع إليه هو الانقطاع للحقيقة الوحيدة في هذا الوجود؛ والتوكل عليه هو التوكل على القوة الوحيدة في هذا الوجود. والاتكال على الله وحده هو الثمرة المباشرة للاعتقاد بوحدانيته، وهيمنته على المشرق والمغرب، أي على الكون كله.. والرسول الذي ينادى: قم.. لينهض بعبئه الثقيل، في حاجة ابتداء للتبتل لله والاعتماد عليه دون سواه. فمن هنا يستمد القوة والزاد للعبء الثقيل في الطريق الطويل ثم وجه الله الرسول إلى الصبر الجميل على ما يلقاه من قومه من الاتهام والإعراض والصد والتعطيل. وأن يخلي بينه وبين المكذبين! ويمهلهم قليلاً. فإن لدى الله لهم عذاباً وتنكيلاً: {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلا. وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا. إن لدينآ أنكالاً وجحيما. وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليما. يوم ترجف الأرض والجبال، وكانت الجبال كثيباً مهيلا.. إنآ أرسلنآ إليكم رسولاً شاهداً عليكم كمآ أرسلنآ إلى فرعون رسولا، فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلا. فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً، السمآء منفطر به كان وعده مفعولا}.. وإذا صحت الرواية الأولى عن نزول مطلع هذه السورة في بدء البعثة، فإن هذا الشوط الثاني منها يكون قد نزل متأخراً بعد الجهر بالدعوة، وظهور المكذبين والمتطاولين، وشدتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين. فأما إذا صحت الرواية الثانية فإن شطر السورة الأول كله يكون قد نزل بمناسبة ما نال النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين وصدهم عن الدعوة. وعلى أية حال فإننا نجد التوجيه إلى الصبر، بعد التوجيه إلى القيام والذكر، وهما كثيراً ما يقترنان في صدد تزويد القلب بزاد هذه الدعوة في طريقها الشاق الطويل، سواء طريقها في مسارب الضمير أو طريقها في جهاد المناوئين، وكلاهما شاق عسير.. نجد التوجيه إلى الصبر. {واصبر على ما يقولون}.. مما يغيظ ويحنق، {واهجرهم هجراً جميلاً}.. لا عتاب معه ولا غضب، ولا هُجر فيه ولا مشادة. وكانت هذه هي خطة الدعوة في مكة وبخاصة في أوائلها.. كانت مجرد خطاب للقلوب والضمائر، ومجرد بلاغ هادئ ومجرد بيان منير. والهجر الجميل مع التطاول والتكذيب، يحتاج إلى الصبر بعد الذكر. والصبر هو الوصية من الله لكل رسول من رسله، مرة ومرة ومرة؛ ولعباده المؤمنين برسله. وما يمكن أن يقوم على هذه الدعوة أحد إلا والصبر زاده وعتاده، والصبر جنته وسلاحه، والصبر ملجؤه وملاذه. فهي جهاد.. جهاد مع النفس وشهواتها وانحرافاتها وضعفها وشرودها وعجلتها وقنوطها.. وجهاد مع أعداء الدعوة ووسائلهم وتدبيرهم وكيدهم وأذاهم. ومع النفوس عامة وهي تتفصى من تكاليف هذه الدعوة، وتتفلت، وتتخفى في أزياء كثيرة وهي تخالف عنها ولا تستقيم عليها. والداعية لا زاد له إلا الصبر أمام هذا كله، والذكر وهو قرين الصبر في كل موضع تقريباً! اصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً.. وخل بيني وبين المكذبين، فأنا بهم كفيل: {وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً}.. كلمة يقولها الجبار القهار القوي المتين.. {وذرني والمكذبين}.. والمكذبون بشر من البشر، والذي يتهددهم هو الذي أنشأهم ابتداء وخلق هذا الكون العريض {بكن} ولا تزيد! ذرني والمكذبين.. فهي دعوتي. وما عليك إلا البلاغ. ودعهم يكذبون واهجرهم هجراً جميلاً. وسأتولى أنا حربهم، فاسترح أنت من التفكير في شأن المكذبين! إنها القاصمة المزلزلة المذهلة حين يخلو الجبار، إلى هذه الخلائق الهينة المضعوفة. . {أولي النعمة} مهما يكن من جبروتهم في الأرض على أمثالهم من المخاليق! {ومهلهم قليلاً} ولو مهلهم الحياة الدنيا كلها ما كانت إلا قليلاً. وإن هي إلا يوم أو بعض يوم في حساب الله. وفي حسابهم هم أنفسهم حين تطوى، بل إنهم ليحسونها في يوم القيامة ساعة من نهار! فهي قليل أياً كان الأمد، ولو مضوا من هذه الحياة ناجين من أخذ الجبار المنتقم الذي يمهل قليلاً ويأخذ تنكيلاً: {إن لدينا أنكالاً وجحيماً وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً}.. والأنكال هي القيود والجحيم والطعام ذو الغصة الذي يمزق الحلوق والعذاب الأليم.. كلها جزاء مناسب {لأولي النعمة} ! الذين لم يرعوا النعمة، ولم يشكروا المنعم، فاصبر يا محمد عليهم صبراً جميلاً وخل بيني وبينهم. ودعهم فإن عندنا قيوداً تنكل بهم وتؤذيهم، وجحيماً تجحمهم وتصليهم، وطعاماً تلازمه الغصة في الحلق، وعذاباً أليماً في يوم مخيف.. ثم يرسم مشهد هذا اليوم المخيف: {يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيباً مهيلاً}.. فها هي ذي صورة للهول تتجاوز الناس إلى الأرض في أكبر مجاليها. فترجف وتخاف وتتفتت وتنهار. فكيف بالناس المهازيل الضعاف! ويلتفت السياق أمام مشهد الهول المفزع، إلى المكذبين أولي النعمة، يذكرهم فرعون الجبار، وكيف أخذه الله أخذ عزيز قهار: إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً، فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلاً}. هكذا في اختصار يهز قلوبهم ويخلعها خلعاً، بعد مشهد الأرض والجبال وهي ترجف وتنهار. فذلك أخذ الآخرة وهذا أخذ الدنيا؛ فكيف تنجون بأنفسكم وتقوها هذا الهول الرعيب؟ {فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً السماء منفطر به؟}.. وإن صورة الهول هنا لتنشق لها السماء، ومن قبل رجفت لها الأرض والجبال. وإنها لتشيب الولدان. وإنه لهول ترتسم صوره في الطبيعة الصامتة، وفي الإنسانية الحية.. في مشاهد ينقلها السياق القرآني إلى حس المخاطبين كأنها واقعة.. ثم يؤكدها تأكيداً. {كان وعده مفعولاً}.. واقعاً لا خلف فيه. وهو ما شاء فعل وما أراد كان! وأمام هذا الهول الذي يتمثل في الكون كما يتمثل في النفس يلمس قلوبهم لتتذكر وتختار طريق السلامة.. طريق الله.. {إن هذه تذكرة، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً}.. وإن السبيل إلى الله لآمن وأيسر، من السبيل المريب، إلى هذا الهول العصيب! وبينما تزلزل هذه الآيات قوائم المكذبين، تنزل على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم والقلة المؤمنة المستضعفة إذ ذاك بالروح والثقة واليقين. إذ يحسون أن ربهم معهم، يقتل أعداءهم وينكل بهم. وإن هي إلا مهلة قصيرة، إلى أجل معلوم. ثم يقضى الأمر، حينما يجيء الأجل ويأخذ الله أعداءه وأعداءهم بالنكال والجحيم والعذاب الأليم. إن الله لا يدع أولياءه لأعدائه، ولو أمهل أعداءه إلى حين. .. والآن يجيء شطر السورة الثاني في آية واحدة طويلة، نزلت بعد مطلع السورة بعام على أرجح الأقوال: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه، وطآئفة من الذين معك. والله يقدر الليل والنهار. علم أن لن تحصوه فتاب عليكم، فاقرءوا ما تيسر من القرآن. علم أن سيكون منكم مرضى. وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله. فاقرءوا ما تيسر منه، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأقرضوا الله قرضاً حسناً، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً، واستغفروا الله، إن الله غفور رحيم}.. إنها لمسة التخفيف الندية، تمسح على التعب والنصب والمشقة. ودعوة التيسير الإلهي على النبي والمؤمنين. وقد علم الله منه ومنهم خلوصهم له. وقد انتفخت أقدامهم من القيام الطويل للصلاة بقدر من القرآن كبير. وما كان الله يريد لنبيه أن يشقى بهذا القرآن وبالقيام. إنما كان يريد أن يعده للأمر العظيم الذي سيواجهه طوال ما بقي له من الحياة. هو والمجموعة القليلة من المؤمنين الذين قاموا معه. وفي الحديث مودة وتطمين: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك}.. إنه رآك! إن قيامك وصلاتك أنت وطائفة من الذين معك قبلت في ميزان الله.. إن ربك يعلم أنك وهم تجافت جنوبكم عن المضاجع؛ وتركت دفء الفراش في الليلة القارسة، ولم تسمع نداء المضاجع المغري وسمعت نداء الله.. إن ربك يعطف عليك ويريد أن يخفف عنك وعن أصحابك.. {والله يقدر الليل والنهار}.. فيطيل من هذا ويقصر من ذاك. فيطول الليل ويقصر. وأنت ومن معك ماضون تقومون أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه. وهو يعلم ضعفكم عن الموالاة. وهو لا يريد أن يعنتكم ولا أن يشق عليكم. إنما يريد لكم الزاد وقد تزودتم فخففوا على أنفسكم، وخذوا الأمر هيناً: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن}.. في قيام الليل بلا مشقة ولا عنت.. وهناك في علم الله أمور تنتظركم تستنفد الجهد والطاقة، ويشق معها القيام الطويل: {علم أن سيكون منكم مرضى} يصعب عليهم هذا القيام {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله}.. في طلب الرزق والكد فيه، وهو ضرورة من ضرورات الحياة. والله لا يريد أن تدعوا أمور حياتكم وتنقطعوا لعبادة الشعائر انقطاع الرهبان! {وآخرون يقاتلون في سبيل الله}.. فقد علم الله أن سيأذن لكم في الانتصار من ظلمكم بالقتال، ولإقامة راية للإسلام في الأرض يخشاها البغاة! فخففوا إذن على أنفسكم {فاقرءوا ما تيسر منه} بلا عسر ولا مشقة ولا إجهاد.. واستقيموا على فرائض الدين: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}.. وتصدقوا بعد ذلك قرضاً لله يبقى لكم خيره. . {وأقرضوا الله قرضاً حسناً، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً}.. واتجهوا إلى الله مستغفرين عن تقصيركم. فالإنسان يقصر ويخطئ مهما جد وتحرى الصواب: {واستغفروا الله إن الله غفور رحيم}.. إنها لمسة الرحمة والود والتيسير والطمأنينة تجيء بعد عام من الدعوة إلى القيام! ولقد خفف الله عن المسلمين، فجعل قيام الليل لهم تطوعاً لا فريضة. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد مضى على نهجه مع ربه، لا يقل قيامه عن ثلث الليل، يناجي ربه، في خلوة من الليل وهدأة، ويستمد من هذه الحضرة زاد الحياة وزاد الجهاد. على أن قلبه ما كان ينام وإن نامت عيناه، فقد كان قلبه صلى الله عليه وسلم دائماً مشغولاً بذكر الله، متبتلاً لمولاه. وقد فرغ قلبه من كل شيء إلا من ربه. على ثقل ما يحمل على عاتقه، وعلى مشقة ما يعاني من الأعباء الثقال..
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)} ينطبق على هذه السورة من ناحية سبب نزولها، ووقت نزولها ما سبق ذكره عن سورة «المزمل». فهناك روايات بأنها هي أول ما نزل بعد سورة العلق، ورواية أخرى بأنها نزلت بعد الجهر بالدعوة وإيذاء المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم. قال البخاري، حدثنا يحيى، حدثنا وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن؟ قال: {يا أيها المدثر}.. قلت: يقولون {اقرأ باسم ربك الذي خلق} فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، وقلت له مثل ما قلت لي، فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً. فأتيت خديجة فقلت:» دثروني وصبوا عليّ ماء بارداً «قال: فدثروني وصبوا عليّ ماء بارداً. قال: فنزلت: {يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر». وقد رواه مسلم من طريق عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة. قال: أخبرني جابر بن عبد الله، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: «فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء، قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثيت منه حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي فقلت: زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر. قم فأنذر.. إلى والرجز فاهجر}» قال أبو سلمة: والرجز الأوثان. ثم حمي الوحي وتتابع «.. ورواه البخاري من هذا الوجه أيضاً.. وهذا لفظ البخاري. وعلق ابن كثير في التفسير على هذا الحديث بقوله:» وهذا السياق هو المحفوظ، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا لقوله: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء» وهو جبريل، حين أتاه بقوله.. {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم} ثم إنه حصل بعد هذا الفترة، ثم نزل الملك بعد هذا. ووجه الجمع أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة «.. فهذه رواية. وهناك رواية أخرى.. قال الطبراني. حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار، حدثنا الحسن بن بشر البجلي، حدثنا المعافى بن عمران، عن إبراهيم بن يزيد، سمعت ابن أبي مليكة يقول: سمعت ابن عباس يقول: إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاماً، فلما أكلوا منه قال: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: ساحر. وقال بعضهم: ليس بساحر. وقال بعضهم: كاهن. وقال بعضهم: ليس بكاهن. وقال بعضهم: شاعر. وقال بعضهم: ليس بشاعر. وقال بعضهم: بل سحر يؤثر. فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزن، وقنع رأسه، وتدثر. فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر، ولا تمنن تستكثر. ولربك فاصبر}.. وتكاد تكون هذه الرواية هي ذاتها التي رويت عن سورة «المزمل».. مما يجعلنا لا نستطيع الجزم بشيء عن أيتهما هي التي نزلت أولاً. والتي نزلت بهذه المناسبة أو تلك. غير أن النظر في النص القرآني ذاته يوحي بأن مطلع هذه السورة إلى قوله تعالى: {ولربك فاصبر} ربما يكون قد نزل مبكراً في أوائل أيام الدعوة. شأنه شان مطلع سورة المزمل إلى قوله تعالى: {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً} وهذا وذلك لإعداد نفس الرسول صلى الله عليه وسلم للنهوض بالتبعة الكبرى، ومواجهة قريش بعد ذلك بالدعوة جهاراً وكافة، مما سيترتب عليه مشاق كثيرة متنوعة، تحتاج مواجهتها إلى إعداد نفسي سابق.. ويكون ما تلا ذلك في سورة المدثر، وما تلا هذا في سورة المزمل، قد نزلا بعد فترة بمناسبة تكذيب القوم وعنادهم، وإيذائهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالاتهام الكاذب والكيد اللئيم. إلا أن هذا الاحتمال لا ينفي الاحتمال الآخر، وهو أن يكون كل من المطلعين قد نزل متصلاً بما تلاه في هذه السورة وفي تلك، بمناسبة واحدة، وهي التكذيب، واغتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم للكيد الذي كادته قريش ودبرته.. ويكون الشأن في السورتين هو الشأن في سورة القلم على النحو الذي بيناه هناك. وأياً ما كان السبب والمناسبة فقد تضمنت هذه السورة في مطلعها ذلك النداء العلوي بانتداب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر الجلل؛ وانتزاعه من النوم والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة: {يا أيها المدثر. قم فأنذر}.. مع توجيهه صلى الله عليه وسلم إلى التهيؤ لهذا الأمر العظيم، والاستعانة عليه بهذا الذي وجهه الله إليه: {وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر. ولا تمنن تستكثر. ولربك فاصبر}.. وكان ختام التوجيه هنا بالصبر كما كان هناك في سورة المزمل! وتضمنت السورة بعد هذا تهديداً ووعيداً للمكذبين بالآخرة، وبحرب الله المباشرة، كما تضمنت سورة المزمل سواء: {فإذا نقر في الناقور، فذلك يومئذ يوم عسير، على الكافرين غير يسير. ذرني ومن خلقت وحيداً. وجعلت له مالاً ممدوداً، وبنين شهوداً، ومهدت له تمهيداً، ثم يطمع أن أزيد. كلا! إنه كان لآياتنا عنيداً. سأرهقه صعوداً}.. وتعين سورة المدثر أحد المكذبين بصفته، وترسم مشهداً من مشاهد كيده على نحو ما ورد في سورة القلم، وربما كان الشخص المعني هنا وهناك واحداً، قيل: إنه الوليد بن المغيرة (كما سيأتي تفصيل الروايات عند مواجهة النص) وتذكر سبب حرب الله سبحانه وتعالى له: {إنه فكَّر وقدَّر. فقتل! كيف قدَّر؟ ثم نظر، ثم عبس وبسر. ثم أدبر واستكبر. فقال: إن هذآ إلا سحر يؤثر. إن هذآ إلا قول البشر}.. ثم تذكر مصيره: {سأصليه سقر. ومآ أدراك ما سقر، لا تبقي ولا تذر. لواحة للبشر. عليها تسعة عشر}.. وبمناسبة مشهد سقر. والقائمين عليها التسعة عشر. وما أثاره هذا العدد من بلبلة وفتنة وتساؤل وشك واستهزاء في أوساط المشركين وضعاف الإيمان، تتحدث السورة عن حكمة الله في ذكر هذا العدد، ثم تفتح كوة على حقيقة غيب الله، واختصاصه بهذا الغيب، وهي كوة تلقي ضوءاً على جانب من التصور الإيماني لحقيقة غيب الله المكنون: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة. وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا، ليستيقن الذين أوتوا الكتاب، ويزداد الذين آمنوا إيماناً، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون، وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون: ماذآ أراد الله بهذا مثلاً؟ كذلك يضل الله من يشآء ويهدي من يشآء، وما يعلم جنود ربك إلا هو، وما هي إلا ذكرى للبشر}.. ثم يصل أمر الآخرة وسقر ومن عليها بمشاهد كونية حاضرة، ليجمع على القلوب إيحاء هذه وتلك في معرض الإيقاظ والتحذير: {كلا والقمر. والليل إذ أدبر. والصبح إذآ أسفر. إنها لإحدى الكبر. نذيراً للبشر. لمن شآء منكم أن يتقدم أو يتأخر}.. كما يعرض مقام المجرمين ومقام أصحاب اليمين، حيث يعترف المكذبون اعترافاً طويلاً بأسباب استحقاقهم للارتهان والقيد في يوم الجزاء والحساب، يعقب عليه بكلمة الفصل في أمرهم الذي لا تنفعهم فيه شفاعة شافع: {كل نفس بما كسبت رهينة. إلا أصحاب اليمين. في جنات يتسآءلون عن المجرمين. ما سلككم في سقر؟ قالوا: لم نك من المصلين. ولم نك نطعم المسكين. وكنا نخوض مع الخآئضين. وكنا نكذب بيوم الدين. حتى أتانا اليقين. فما تنفعهم شفاعة الشافعين}.. وفي ظل هذا المشهد المخزي، والاعتراف المهين، يتساءل مستنكراً موقف المكذبين من الدعوة إلى التذكرة والنجاة من هذا المصير، ويرسم لهم مشهداً ساخراً يثير الضحك والزراية من نفارهم الحيواني الشموس: {فما لهم عن التذكرة معرضين؟ كأنهم حمر مستنفرة. فرت من قسورة!}. ويكشف عن حقيقة الغرور الذي يساورهم فيمنعهم من الاستجابة لصوت المذكر الناصح. {بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة}. . فهو الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم والرغبة في أن يؤتى كل منهم الرسالة! والسبب الدفين الآخر هو قلة التقوى: {كلا! بل لا يخافون الآخرة}.. وفي الختام يجيء التقرير الجازم الذي لا مجاملة فيه: {كلا! إنه تذكرة. فمن شاء ذكره} ورد الأمر كله إلى مشيئة الله وقدره: {وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة}.. وهكذا تمثل السورة حلقة من حلقات الكفاح النفسي الذي كافحه القرآن للجاهلية وتصوراتها في قلوب قريش؛ كما كافح العناد والكيد والإعراض الناشئ عن العمد والقصد بشتى الأساليب.. والمشابهات كثيرة بين اتجاهات هذه السورة واتجاهات سورة المزمل، وسورة القلم، مما يدل على أنها جميعاً نزلت متقاربة، لمواجهة حالات متشابهة.. وذلك باستثناء الشطر الثاني من سورة المزمل، وقد نزل لشأن خاص بالرياضة الروحية للرسول صلى الله عليه وسلم وطائفة من الذين معه كما تقدم. وهذه السورة قصيرة الآيات. سريعة الجريان. منوعة الفواصل والقوافي. يتئد إيقاعها أحياناً، ويجري لاهثاً أحياناً! وبخاصة عند تصوير مشهد هذا المكذب وهو يفكر ويقدر ويعبس ويبسر.. وتصوير مشهد سقر. لا تبقي ولا تذر. لواحة للبشر.. ومشهد فرارهم كأنهم حمر مستنفرة. فرت من قسورة! وهذا التنوع في الإيقاع والقافية بتنوع المشاهد والظلال يجعل للسورة مذاقاً خاصاً؛ ولا سيما عند رد بعض القوافي ورجعها بعد انتهائها كقافية الراء الساكنة: المدثر. أنذر. فكبر.. وعودتها بعد فترة: قدر. بسر. استكبر. سقر.. وكذلك الانتقال من قافية إلى قافية في الفقرة الواحدة مفاجأة ولكن لهدف خاص. عند قوله: {فما لهم عن التذكرة معرضين؟ كأنهم حمر مستنفرة. فرت من قسورة}.. ففي الآية الأولى كان يسأل ويستنكر. وفي الثانية والثالثة كان يصور ويسخر! وهكذا.. والآن نأخذ في الاستعراض التفصيلي للسورة: {يا أيها المدّثّر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر. ولا تمنن تستكثر. ولربك فاصبر}.. إنه النداء العلوي الجليل، للأمر العظيم الثقيل.. نذارة هذه البشرية وإيقاظها، وتخليصها من الشر في الدنيا، ومن النار في الآخرة؛ وتوجيهها إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان.. وهو واجب ثقيل شاق، حين يناط بفرد من البشر مهما يكن نبياً رسولاً فالبشرية من الضلال والعصيان والتمرد والعتو والعناد والإصرار والالتواء والتفصي من هذا الأمر، بحيث تجعل من الدعوة أصعب وأثقل ما يكلفه إنسان من المهام في هذا الوجود! {يا أيها المدثر. قم فأنذر}.. والإنذار هو أظهر ما في الرسالة، فهو تنبيه للخطر القريب الذي يترصد للغافلين السادرين في الضلال وهم لا يشعرون. وفيه تتجلى رحمة الله بالعباد، وهم لا ينقصون في ملكه شيئاً حين يضلون، ولا يزيدون في ملكه شيئاً حين يهتدون. غير أن رحمته اقتضت أن يمنحهم كل هذه العناية ليخلصوا من العذاب الأليم في الآخرة، ومن الشر الموبق في الدنيا. وأن يدعوهم رسله ليغفر لهم ويدخلهم جنته من فضله! ثم يوجه الله رسوله في خاصة نفسه بعد إذ كلفه نذارة غيره: يوجهه إلى تكبير ربه: {وربك فكبر}.. ربك وحده.. فهو وحده الكبير، الذي يستحق التكبير. وهو توجيه يقرر جانباً من التصور الإيماني لمعنى الألوهية، ومعنى التوحيد. إن كل أحد، وكل شيء، وكل قيمة، وكل حقيقة.. صغير.. والله وحده هو الكبير.. وتتوارى الأجرام والأحجام، والقوى والقيم، والأحداث والأحوال، والمعاني والأشكال؛ وتنمحي في ظلال الجلال والكمال، لله الواحد الكبير المتعال. وهو توجيه للرسول صلى الله عليه وسلم ليواجه نذارة البشرية، ومتاعها وأهوالها وأثقالها، بهذا التصور، وبهذا الشعور، فيستصغر كل كيد، وكل قوة، وكل عقبة، وهو يستشعر أن ربه الذي دعاه ليقوم بهذه النذارة، هو الكبير.. ومشاق الدعوة وأهوالها في حاجة دائمة إلى استحضار هذا التصور وهذا الشعور. ويوجهه إلى التطهر: {وثيابك فطهر}.. وطهارة الثياب كناية في الاستعمال العربي عن طهارة القلب والخلق والعمل.. طهارة الذات التي تحتويها الثياب، وكل ما يلم بها أو يمسها.. والطهارة هي الحالة المناسبة للتلقي من الملأ الأعلى. كما أنها ألصق شيء بطبيعة هذه الرسالة. وهي بعد هذا وذلك ضرورية لملابسة الإنذار والتبليغ، ومزاولة الدعوة في وسط التيارات والأهواء والمداخل والدروب؛ وما يصاحب هذا ويلابسه من أدران ومقاذر وأخلاط وشوائب، تحتاج من الداعية إلى الطهارة الكاملة كي يملك استنقاذ الملوثين دون أن يتلوث، وملابسة المدنسين من غير أن يتدنس.. وهي لفتة دقيقة عميقة إلى ملابسات الرسالة والدعوة والقيام على هذا الأمر بين شتى الأوساط، وشتى البيئات، وشتى الظروف، وشتى القلوب! ويوجهه إلى هجران الشرك وموجبات العذاب: {والرجز فاهجر}.. والرسول صلى الله عليه وسلم كان هاجراً للشرك ولموجبات العذاب حتى قبل النبوة. فقد عافت فطرته السليمة ذلك الانحراف، وهذا الركام من المعتقدات الشائهة، وذلك الرجس من الأخلاق والعادات، فلم يعرف عنه أنه شارك في شيء من خوض الجاهلية. ولكن هذا التوجيه يعني المفاصلة وإعلان التميز الذي لا صلح فيه ولا هواده. فهما طريقان مفترقان لا يلتقيان. كما يعني التحرز من دنس هذا الرجز والرجز في الأصل هو العذاب، ثم أصبح يطلق على موجبات العذاب تحرز التطهر من مس هذا الدنس! ويوجهه إلى إنكار ذاته وعدم المن بما يقدمه من الجهد، أو استكثاره واستعظامه: {ولا تمنن تستكثر}.. وهو سيقدم الكثير، وسيبذل الكثير، وسيلقى الكثير من الجهد والتضحية والعناء. ولكن ربه يريد منه ألا يظل يستعظم ما يقدمه ويستكثره ويمتن به.. وهذه الدعوة لا تستقيم في نفس تحس بما تبذل فيها. فالبذل فيها من الضخامة بحيث لا تحتمله النفس إلا حين تنساه. بل حين لا تستشعره من الأصل لأنها مستغرقة في الشعور بالله؛ شاعرة بأن كل ما تقدمه هو من فضله ومن عطاياه. فهو فضل يمنحها إياه، وعطاء يختارها له، ويوفقها لنيله. وهو اختيار واصطفاء وتكريم يستحق الشكر لله. لا المن والاستكثار. ويوجهه أخيراً إلى الصبر. الصبر لربه: {ولربك فاصبر}.. وهي الوصية التي تتكرر عند كل تكليف بهذه الدعوة أو تثبيت. والصبر هو هذا الزاد الأصيل في هذه المعركة الشاقة. معركة الدعوة إلى الله. المعركة المزدوجة مع شهوات النفوس وأهواء القلوب؛ ومع أعداء الدعوة الذين تقودهم شياطين الشهوات وتدفعهم شياطين الأهواء! وهي معركة طويلة عنيفة لا زاد لها إلا الصبر الذي يقصد فيه وجه الله، ويتجه به إليه احتساباً عنده وحده. فإذا انتهى هذا التوجيه الإلهي للنبي الكريم، اتجه السياق إلى بيان ما ينذر به الآخرين، في لمسة توقظ الحس لليوم العسير، الذي ينذر بمقدمه النذير: {فإذا نقر في الناقور. فذلك يومئذ يوم عسير: على الكافرين غير يسير}.. والنقر في الناقور، هو ما يعبر عنه في مواضع أخرى بالنفخ في الصور. ولكن التعبير هنا أشد إيحاء بشدة الصوت ورنينه؛ كأنه نقر يصوّت ويدوّي. والصوت الذي ينقر الآذان أشد وقعاً من الصوت الذي تسمعه الآذان.. ومن ثم يصف اليوم بأنه عسير على الكافرين، ويؤكد هذا العسر بنفي كل ظل لليسر فيه: {على الكافرين غير يسير}.. فهو عسر كله. عسر لا يتخلله يسر. ولا يفصل أمر هذا العسر، بل يدعه مجملاً مجهلاً يوحي بالاختناق والكرب والضيق.. فما أجدر الكافرين أن يستمعوا للنذير، قبل أن ينقر في الناقور، فيواجههم هذا اليوم العسير العسير! وينتقل من هذا التهديد العام إلى مواجهة فرد بذاته من المكذبين؛ يبدو أنه كان له دور رئيسي خاص في التكذيب والتبييت للدعوة؛ فيوجه إليه تهديداً ساحقاً ماحقاً، ويرسم له صورة منكرة تثير الهزء والسخرية من حاله وملامح وجهه ونفسه التي تبرز من خلال الكلمات كأنها حية شاخصة متحركة الملامح والسمات: {ذرني ومن خلقت وحيدا، وجعلت له مالاً ممدودا، وبنين شهودا، ومهدت له تمهيدا؛ ثم يطمع أن أزيد! كلا! إنه كان لآياتنا عنيدا. سأرهقه صعودا. إنه فكر وقدر. فقتل! كيف قدر؟ ثم قتل! كيف قدر؟ ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر، فقال: إن هذآ إلا سحر يؤثر. إن هذآ إلا قول البشر. سأصليه سقر. ومآ أدراك ما سقر؟ لا تبقي ولا تذر، لواحة للبشر، عليها تسعة عشر...}.. وقد وردت روايات متعددة بأن المعنيّ هنا هو الوليد بن المغيرة المخزومي. قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثورة، عن معمر، عن عبادة بن منصور، عن عكرمة، أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام، فأتاه فقال له: أي عم! إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً: قال: لم؟ قال: يعطونكه، فإنك أتيت محمداً تتعرض لما قِبله (يريد بخبث أن يثير كبرياءه من الناحية التي يعرف أن الوليد أشد بها اعتزازاً) قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالاً! قال: فقل فيه قولاً يعلم قومك أنك منكر لما قال، وأنك كاره له! قال: فماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن! والله ما يشبه الذي يقوله شيئاً من هذا. والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى.. قال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه.. قال: فدعني حتى أفكر فيه.. فلما فكر قال: إن هذا إلا سحر يؤثره عن غيره. فنزلت: {ذرني ومن خلقت وحيداً حتى بلغ عليها تسعة عشر}. وفي رواية أخرى أن قريشاً قالت: لئن صبأ الوليد، لتصبون قريش كلها! فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه! ثم دخل عليه!.. وأنه قال بعد التفكير الطويل: إنه سحر يؤثر. أما ترون أنه يفرق بين المرء وأهله وولده ومواليه؟ هذه هي الواقعة كما جاءت بها الروايات. فأما القرآن فيسوقها هذه السياقة الحية المثيرة.. يبدأ بذلك التهديد القاصم الرهيب. {ذرني ومن خلقت وحيداً}.. والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ومعناه خل بيني وبين هذا الذي خلقته وحيداً مجرداً من كل شيء آخر مما يعتز به من مال كثير ممدود وبنين حاضرين شهود ونعم يتبطر بها ويختال ويطلب المزيد. خل بيني وبينه ولا تشغل بالك بمكره وكيده. فأنا سأتولى حربه.. وهنا يرتعش الحس ارتعاشه الفزع المزلزل؛ وهو يتصور انطلاق القوة التي لا حد لها.. قوة الجبار القهار.. لتسحق هذا المخلوق المضعوف المسكين الهزيل الضئيل! وهي الرعشة التي يطلقها النص القرآني في قلب القارئ والسامع الآمنين منها. فما بال الذي تتجه إليه وتواجهه! ويطيل النص في وصف حال هذا المخلوق، وما آتاه الله من نعمه وآلائه، قبل أن يذكر إعراضه وعناده. فهو قد خلقه وحيداً مجرداً من كل شيء حتى من ثيابه! ثم جعل له مالاً كثيراً ممدوداً. ورزقه بنين من حوله حاضرين شهوداً، فهو منهم في أنس وعزوة. ومهد له الحياة تمهيداً ويسرها له تيسيراً.. {ثم يطمع أن أزيد}.. فهو لا يقنع بما أوتي، ولا يشكر ويكتفي.. أم لعله يطمع في أن ينزل عليه الوحي وأن يعطى كتاباً كما سيجيء في آخر السورة: {بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة}.. فقد كان ممن يحسدون الرسول صلى الله عليه وسلم على إعطائه النبوة. وهنا يردعه ردعاً عنيفاً عن هذا الطمع الذي لم يقدم حسنة ولا طاعة ولا شكراً لله يرجو بسببه المزيد: {كلا!}، وهي كلمة ردع وتبكيت {إنه كان لآياتنا عنيداً}. . فعاند دلائل الحق وموحيات الإيمان. ووقف في وجه الدعوة، وحارب رسولها، وصد عنها نفسه وغيره، وأطلق حواليها الأضاليل. ويعقب على الردع بالوعيد الذي يبدل اليسر عسراً، والتمهيد مشقة! {سأرهقه صعوداً}.. وهو تعبير مصور لحركة المشقة. فالتصعيد في الطريق هو أشق السير وأشده إرهاقاً. فإذا كان دفعاً من غير إرادة من المصعد كان أكثر مشقة وأعظم إرهاقاً. وهو في الوقت ذاته تعبير عن حقيقة. فالذي ينحرف عن طريق الإيمان السهل الميسر الودود، يندبّ في طريق وعر شاق مبتوت؛ ويقطع الحياة في قلق وشدة وكربة وضيق، كأنما يصعد في السماء، أو يصعد في وعر صلد لا ريّ فيه ولا زاد، ولا راحة ولا أمل في نهاية الطريق! ثم يرسم تلك الصورة المبدعة المثيرة للسخرية والرجل يكد ذهنه! ويعصر أعصابه! ويقبض جبينه! وتكلح ملامحه وقسماته.. كل ذلك ليجد عيباً يعيب به هذا القرآن، وليجد قولاً يقوله فيه: {إنه فكر وقدر. فقتل! كيف قدر؟ ثم قتل! كيف قدر؟ ثم نظر. ثم عبس وبسر. ثم أدبر واستكبر. فقال: إن هذآ إلا سحر يؤثر. إن هذآ إلا قول البشر}.. لمحة لمحة. وخطرة خطرة. وحركة حركة. يرسمها التعبير، كما لو كانت ريشة تصور، لا كلمات تعبر، بل كما لو كانت فيلماً متحركاً يلتقط المشهد لمحة لمحة!!! لقطة وهو يفكر ويدبر ومعها دعوة هي قضاء {فقتل!} واستنكار كله استهزاء {كيف قدَّر} ثم تكرار الدعوة والاستنكار لزيادة الإيحاء بالتكرار. ولقطة وهو ينظر هكذا وهكذا في جد مصطنع متكلف يوحي بالسخرية منه والاستهزاء. ولقطة وهو يقطب حاجبيه عابساً، ويقبض ملامح وجهه باسراً، ليستجمع فكره في هيئة مضحكة! وبعد هذا المخاض كله؟ وهذا الحَزق كله؟ لا يفتح عليه بشيء.. إنما يدبر عن النور ويستكبر عن الحق.. فيقول: {إن هذا إلا سحر يؤثر. إن هذا إلا قول البشر} ! إنها لمحات حية يثبتها التعبير القرآني في المخيلة أقوى مما تثبتها الريشة في اللوحة؛ وأجمل مما يعرضها الفيلم المتحرك على الأنظار! وإنها لتدع صاحبها سخرية الساخرين أبد الدهر، وتثبت صورته الزرية في صلب الوجود، تتملاها الأجيال بعد الأجيال! فإذا انتهى عرض هذه اللمحات الحية الشاخصة لهذا المخلوق المضحك، عقب عليها بالوعيد المفزع: {سأصليه سقر}.. وزاد هذا الوعيد تهويلاً بتجهيل سقر: {وما أدراك ما سقر؟}.. إنها شيء أعظم وأهول من الإدراك! ثم عقب على التجهيل بشيء من صفتها أشد هولاً: {لا تبقي ولا تذر}.. فهي تكنس كنساً، وتبلع بلعاً، وتمحو محواً، فلا يقف لها شيء، ولا يبقى وراءها شيء، ولا يفضل منها شيء! ثم هي تتعرض للبشر وتلوح: {لواحة للبشر}.. كما قال في سورة المعارج: {تدعو من أدبر وتولى}. . فهي تدل على نفسها، وكأنما تقصد إثارة الفزع في النفوس، بمنظرها المخيف! ويقوم عليها حراس عدتهم: {تسعة عشر}.. لا ندري أهم أفراد من الملائكة الغلاظ الشداد، أم صفوف أم أنواع من الملائكة وصنوف. إنما هو خبر من الله سندري شأنه فيما يجيء.. فأما المؤمنون فقد تلقوا كلمات الله بالتسليم اللائق بمن وثق بربه، وتأدب معه أدب العبد مع الرب فلم يعد يماري في خبره وقوله. وأما المشركون فتلقفوا هذا العدد بقلوب خاوية من الإيمان، عارية من التوقير لله، خالية من الجد في تلقي هذا الأمر العظيم. وراحوا يتهكمون عليه ويسخرون منه، ويتخذونه موضعاً للتندر والمزاح.. قال قائل منهم: أليس يتكفل كل عشرة منكم بواحد من هؤلاء التسعة عشر!؟ وقال قائل: لا بل اكفوني أنتم أمر اثنين منهم وعليّ الباقي أنا أكفيكموهم! وبمثل هذه الروح المطموسة المغلقة الفاضية تلقوا هذا القول العظيم الكريم. عندئذ نزلت الآيات التالية تكشف عن حكمة الله في الكشف عن هذا الجانب من الغيب، وذكر هذا العدد، وترد علم الغيب إلى الله، وتقرر ما وراء ذكر سقر وحراسها من غاية ينتهي الموقف إليها: {وما جعلنآ أصحاب النار إلا ملائكة. وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا، ليستيقن الذين أوتوا الكتاب، ويزداد الذين آمنوا إيماناً، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون، وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون: ماذآ أراد الله بهذا مثلاً؟ كذلك يضل الله من يشآء، ويهدي من يشآء، وما يعلم جنود ربك إلا هو، وما هي إلا ذكرى للبشر}... تبدأ الآية بتقرير حقيقة أولئك التسعة عشر الذين تمارى فيهم المشركون: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة}.. فهم من ذلك الخلق المغيب الذي لا يعلم طبيعته وقوته إلا الله؛ وقد قال لنا عنهم: إنهم {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} فقرر أنهم يطيعون ما يأمرهم به الله، وأن بهم القدرة على فعل ما يأمرهم. فهم إذن مزودون بالقوة التي يقدرون بها على كل ما يكلفهم الله إياه. فإذا كان قد كلفهم القيام على سقر، فهم مزودون من قبله سبحانه بالقوة المطلوبة لهذه المهمة، كما يعلمها الله، فلا مجال لقهرهم أو مغالبتهم من هؤلاء البشر المضعوفين! وما كان قولهم عن مغالبتهم إلا وليد الجهل الغليظ بحقيقة خلق الله وتدبيره للأمور. {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا}.. فهم الذين يثير ذكر العدد في قلوبهم رغبة الجدل؛ ولا يعرفون مواضع التسليم ومواضع الجدل. فهذا الأمر الغيبي كله من شأن الله، وليس لدى البشر عنه من علم كثير ولا قليل، فإذا أخبر الله عنه خبراً فهو المصدر الوحيد لهذا الطرف من الحقيقة، وشأن البشر هو تلقي هذا الخبر بالتسليم، والاطمئنان إلى أن الخير في ذكر هذا الطرف وحده، بالقدر الذي ذكره، وأن لا مجال للجدل فيه، فالإنسان إنما يجادل فيما لديه عنه علم سابق يناقض الخبر الجديد أو يغايره. أما لماذا كانوا تسعة عشر (أياً كان مدلول هذا العدد) فهو أمر يعلمه الله الذي ينسق الوجود كله، ويخلق كل شيء بقدر. وهذا العدد كغيره من الأعداد. والذي يبغي الجدل يمكنه أن يجادل وأن يعترض على أي عدد آخر وعلى أي أمر آخر بنفس الاعتراض.. لماذا كانت السماوات سبعاً؟ لماذا كان خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار؟ لماذا كان حمل الجنين تسعة أشهر؟ لماذا تعيش السلاحف آلاف السنين؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ والجواب: لأن صاحب الخلق والأمر يريد ويفعل ما يريد! هذا هو فصل الخطاب في مثل هذه الأمور.. {ليستيقن الذين أوتوا الكتاب، ويزداد الذين آمنوا إيماناً، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون}.. فهؤلاء وهؤلاء سيجدون في عدد حراس سقر ما يدعو بعضهم إلى اليقين ويدعو البعض إلى ازدياد الإيمان. فأما الذين أوتوا الكتاب فلا بد أن لديهم شيئاً عن هذه الحقيقة، فإذا سمعوها من القرآن استيقنوا أنه مصدق لما بين يديهم عنها. وأما الذين آمنوا فكل قول من ربهم يزيدهم إيماناً. لأن قلوبهم مفتوحة موصولة تتلقى الحقائق تلقياً مباشراً؛ وكل حقيقة ترد إليها من عند الله تزيدها أنساً بالله.. وستشعر قلوبهم بحمكة الله في هذا العدد، وتقديره الدقيق في الخلق، فتزيد قلوبهم إيماناً. وتثبت هذه الحقيقة في قلوب هؤلاء وهؤلاء فلا يرتابون بعدها فيما يأتيهم من عند الله. {وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون: ماذا أراد الله بهذا مثلاً؟}.. وهكذا تترك الحقيقة الواحدة أثرين مختلفين في القلوب المختلفة.. فبينما الذين أوتوا الكتاب يستيقنون، والذين آمنوا يزيدون إيماناً، إذا بالذين كفروا وضعاف القلوب المنافقون في حيرة يتساءلون: {ماذا أراد الله بهذا مثلاً؟}.. فهم لا يدركون حكمة هذا الأمر الغريب. ولا يسلمون بحكمة الله المطلقة في تقدير كل خلق. ولا يطمئنون إلى صدق الخبر والخير الكامن في إخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.. {كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء}.. كذلك. بذكر الحقائق وعرض الآيات. فتتلقاها القلوب المختلفة تلقياً مختلفاً. ويهتدي بها فريق وفق مشيئة الله؛ ويضل بها فريق حسب مشيئة الله. فكل أمر مرجعه في النهاية إلى إرادة الله المطلقة التي ينتهي إليها كل شيء. وهؤلاء البشر خرجوا من يد القدرة باستعداد مزدوج، للهدى والضلال؛ فمن اهتدى ومن ضل كلاهما يتصرف داخل حدود المشيئة التي خلقتهم بهذا الاستعداد المزدوج، ويسرت لهم التصرف في هذا أو ذاك، في حدود المشيئة الطليقة، ووفق حكمة الله المكنونة. وتصور طلاقة المشيئة وانتهاء كل ما يقع في هذا الوجود إليها تصوراً كاملاً واسع المدلول، يعفي العقول من الجدل الضيق حول ما يسمونه الجبر والإرادة. وهو الجدل الذي لا ينتهي إلى تصور صحيح، بسبب أنه يتناول المسألة من زاوية ضيقة، ويضعها في أشكال محددة نابعة من منطق الإنسان وتجاربه وتصوراته المحدودة! بينما هو يعالج قضية من قضايا الألوهية غير المحدودة! لقد كشف الله لنا عن طريق الهدى وطريق الضلال. وحدد لنا نهجاً نسلكه فنهتدي ونسعد ونفوز. وبيّن لنا نهوجاً ننحرف إليها فنضل ونشقى ونخسر. ولم يكلفنا أن نعلم وراء ذلك شيئاً، ولم يهبنا القدرة على علم شيء وراء هذا. وقال لنا: إن إرادتي مطلقة وإن مشيئتي نافذة.. فعلينا أن نعالج بقدر طاقتنا تصور حقيقة الإرادة المطلقة والمشيئة النافذة. وأن نلتزم النهج الهادي ونتجنب النهوج المضللة. ولا ننشغل في جدل عقيم حول ما لم نوهب القدرة على إدراك كنهه من الغيب المكنون. ومن ثم ننظر فنرى كل ما أنفقه المتكلمون في مسألة القدر على النحو الذي تكلموا به جهداً ضائعاً لا طائل وراءه لأنه في غير ميدانه.. إننا لا نعلم مشيئة الله المغيبة بنا، ولكننا نعلم ماذا يطلب الله منا لنستحق فضله الذي كتبه على نفسه. وعلينا إذن أن ننفق طاقتنا في أداء ما كلفنا، وأن ندع له هو غيب مشيئته فينا. والذي سيكون هو مشيئته، وعندما يكون سنعرف أن هذه مشيئته لا قبل كونه! والذي سيكون وراءه حكمة يعرفها العليم بالكل المطلق.. وهو الله وحده.. وهذا هو طريق المؤمن في التصور ومنهجه في التفكر.. {وما يعلم جنود ربك إلا هو}.. فهي غيب. حقيقتها. ووظيفتها. وقدرتها.. وهو يكشف عما يريد الكشف عنه من أمرها، وقوله هو الفصل في شأنها. وليس لقائل بعده أن يجادل أو يماحك أو يحاول معرفة ما لم يكشف الله عنه، فليس إلى معرفة هذا من سبيل.. {وما هي إلا ذكرى للبشر}.. {وهي} إما أن تكون هي جنود ربك، وإما أن تكون هي سقر ومن عليها. وهي من جنود ربك. وذكرها جاء لينبه ويحذر؛ لا لتكون موضوعاً للجدل والمماحكة! والقلوب المؤمنة هي التي تتعظ بالذكرى، فأما القلوب الضالة فتتخذها مماحكة وجدلاً! ويعقب على هذه الوقفة التقريرية لهذه الحقيقة من حقائق الغيب، ولمناهج التصور الهادية والمضللة.. يعقب على هذا بربط حقيقة الآخرة، وحقيقة سقر، وحقيقة جنود ربك، بظواهر الوجود المشهودة في هذا العالم، والتي يمر عليها البشر غافلين، وهي تشي بتقدير الإرادة الخالقة وتدبيرها، وتوحي بأن وراء هذا التقدير والتدبير قصداً وغاية، وحساباً وجزاء: {كلا والقمر. والليل إذ أدبر. والصبح إذآ أسفر. إنها لإحدى الكبر. نذيراً للبشر} ومشاهد القمر، والليل حين يدبر، والصبح حين يسفر.. مشاهد موحية بذاتها، تقول للقلب البشري أشياء كثيرة؛ وتهمس في أعماقه بأسرار كثيرة؛ وتستجيش في أغواره مشاعر كثيرة. والقرآن يلمس بهذه الإشارة السريعة مكامن هذه المشاعر والأسرار في القلوب التي يخاطبها، على خبرة بمداخلها ودروبها! وقلَّ أن يستيقظ قلب لمشهد القمر حين يطلع يسري وحين يغيب.. ثم لا يعي عن القمر شيئاً يهمس له به من أسرار هذا الوجود! وإن وقفة في نور القمر أحياناً لتغسل القلب كما لو كان يستحم بالنور! وقلَّ أن يستيقظ قلب لمشهد الليل عند إدباره، في تلك الهدأة التي تسبق الشروق، وعندما يبدأ هذا الوجود كله يفتح عينيه ويفيق.. ثم لا ينطبع فيه أثر من هذا المشهد وتدب في أعماقه خطرات رفافة شفافة. وقلَّ أن يستيقظ قلب لمشهد الصبح عند إسفاره وظهوره، ثم لا تنبض فيه نابضة من إشراق وتفتح وانتقال شعوري من حال إلى حال، يجعله أشد ما يكون صلاحية لاستقبال النور الذي يشرق في الضمائر مع النور الذي يشرق في النواظر. والله الذي خلق القلب البشري يعلم أن هذه المشاهد بذاتها تصنع فيه الأعاجيب في بعض الأحايين، وكأنها تخلقه من جديد. ووراء هذه الانبعاثات والإشراقات والاستقبالات ما في القمر، وما في الليل، وما في الصبح من حقيقة عجبية هائلة يوجه القرآن إليها المدارك، وينبه إليها العقول. ومن دلا لة على القدرة المبدعة والحكمة المدبرة، والتنسيق الإلهي لهذا الكون، بتلك الدقة التي يحير تصورها العقول. ويقسم الله سبحانه بهذه الحقائق الكونية الكبيرة لتنبيه الغافلين لأقدارها العظيمة، ودلالاتها المثيرة. يقسم على أن {سقر} أو الجنود التي عليها، أو الآخرة وما فيها، هي إحدى الأمور الكبيرة العجيبة المنذرة للبشر بما وراءهم من خطر: {إنها لإحدى الكبر، نذيراً للبشر}.. والقسم ذاته، ومحتوياته، والمقسم عليه بهذه الصورة.. كلها مطارق تطرق قلوب البشر بعنف وشدة، وتتسق مع النقر في الناقور، وما يتركه من صدى في الشعور. ومع مطلع السورة بالنداء الموقظ: {يا أيها المدثر} والأمر بالنذارة: {قم فأنذر}.. فالجو كله نقر وطرق وخطر!! وفي ظل هذه الإيقاعات المثيرة الخطيرة يعلن تبعة كل نفس لذاتها وعلى ذاتها؛ ويدع للنفوس أن تختار طريقها ومصيرها؛ ويعلن لها أنها مأخوذة بما تكسبه باختيارها، مرهونة بأعمالها وأوزارها: {لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر. كل نفس بما كسبت رهينة}.. فكل فرد يحمل همَّ نفسه وتبعتها، ويضع نفسه حيث شاء أن يضعها، يتقدم بها أو يتأخر، ويكرمها أو يهينها. فهي رهينة بما تكسب، مقيدة بما تفعل. وقد بين الله للنفوس طريقة لتسلك إليه على بصيرة، وهو إعلان في مواجهة المشاهد الكونية الموحية، ومشاهد سقر التي لا تبقي ولا تذر.. له وقعه وله قيمته! وعلى مشهد النفوس الرهينة بما كسبت، المقيدة بما فعلت، يعلن إطلاق أصحاب اليمين من العقال، وإرسالهم من القيد، وتخويلهم حق سؤال المجرمين عما انتهى بهم إلى هذا المصير: {إلا أصحاب اليمين، في جنات يتسآءلون عن المجرمين: ما سلككم في سقر؟ قالوا: لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخآئضين، وكنا نكذب بيوم الدين، حتى أتانا اليقين}. وانطلاق أصحاب اليمين وانفلاتهم من الرهن والقيد موكول إلى فضل الله الذي يبارك حسناتهم ويضاعفها. وإعلان ذلك في هذا الموقف وعرضه يلمس القلوب لمسة مؤثرة. يلمس قلوب المجرمين المكذبين، وهم يرون أنفسهم في هذا الموقف المهين، الذي يعترفون فيه فيطيلون الاعتراف، بينما المؤمنون الذين كانوا لا يحفلونهم في الدنيا، ولا يبالونهم، في موقف الكرامة والاستعلاء، يسألونهم سؤال صاحب الشأن المفوض في الموقف: {ما سلككم في سقر؟}.. ويلمس قلوب المؤمنين الذين كانوا يلاقون من المجرمين ما يلاقون في الأرض، وهم يجدون أنفسهم اليوم في هذا المقام الكريم وأعداءهم المستكبرين في ذلك المقام المهين.. وقوة المشهد تلقي في نفوس الفريقين أنه قائم اللحظة وأنهم فيه قائمون.. وتطوي صفحة الحياة الدنيا بما فيها كأنه ماض انتهى وولى! والاعتراف الطويل المفصل يتناول الجرائر الكثيرة التي انتهت بالمجرمين إلى سقر، يعترفون بها هم بألسنتهم في ذلة المستكين أمام المؤمنين: {قالوا: لم نك من المصلين}.. وهي كناية عن الإيمان كله، تشير إلى أهمية الصلاة في كيان هذه العقيدة، وتجعلها رمز الإيمان ودليله، يدل إنكارها على الكفر، ويعزل صاحبها عن صف المؤمنين. {ولم نك نطعم المسكين}.. وهذه تلي عدم الإيمان، بوصفها عبادة الله في خلقه، بعد عبادته سبحانه في ذاته. ويدل ذكرها بهذه القوة في مواضع شتى على الحالة الاجتماعية التي كان القرآن يواجهها، وانقطاع الإحسان للفقير في هذه البيئة القاسية، على الرغم من الفخر بالكرم في مواضع المفاخرة والاختيال، مع تركه في مواضع الحاجة والعطف الخالص البريء. {وكنا نخوض مع الخائضين}.. وهي تصف حالة الاستهتار بأمر العقيدة، وحقيقة الإيمان، وأخذها مأخذ الهزل واللعب والخوض بلا مبالاة ولا احتفال. وهي أعظم الجد وأخطر الأمر في حياة الإنسان؛ وهي الشأن الذي ينبغي أن يفصل فيه ضميره وشعوره قبل أن يتناول أي شأن آخر من شؤون هذه الحياة، فعلى أساسها يقوم تصوره وشعوره وقيمه وموازينه. وعلى ضوئها يمضي في طريق الحياة. فكيف لا يقطع فيها برأي ولا يأخذها مأخذ الجد؟ ويخوض فيها مع الخائضين، ويلعب فيها مع اللاعبين؟ {وكنا نكذب بيوم الدين} وهذه أس البلايا. فالذي يكذب بيوم الدين تختل في يده جميع الموازين، وتضطرب في تقديره جميع القيم، ويضيق في حسه مجال الحياة، حين يقتصر على هذا العمر القصير المحدود في هذه الأرض؛ ويقيس عواقب الأمور بما يتم منها في هذا المجال الصغير القصير، فلا يطمئن إلى هذه العواقب، ولا يحسب حساب التقدير الأخير الخطير.. ومن ثم تفسد مقاييسه كلها ويفسد في يده كل أمر من أمور هذه الدنيا، قبل أن يفسد عليه تقديره للآخرة ومصيره فيها. . وينتهي من ثم إلى شر مصير. والمجرمون يقولون: إننا ظللنا على هذه الأحوال، لا نصلي، ولا نطعم المسكين، ونخوض مع الخائضين، ونكذب بيوم الدين.. {حتى أتانا اليقين}.. الموت الذي يقطع كل شك وينهي كل ريب، ويفصل في الأمر بلا مرد.. ولا يترك مجالاً لندم ولا توبة ولا عمل صالح.. بعد اليقين.. ويعقب السياق على الموقف السيئ المهين، بقطع كل أمل في تعديل هذا المصير: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين}.. فقد قضي الأمر، وحق القول، وتقرر المصير، الذي يليق بالمجرمين المعترفين! وليس هنالك من يشفع للمجرمين أصلاً. وحتى على فرض ما لا وجود له فما تنفعهم شفاعة الشافعين! وأمام هذا الموقف المهين الميئوس منه في الآخرة، يردهم إلى موقف في الفرصة المتاحة لهم في الأرض قبل مواجهة ذلك الموقف؛ وهم يصدون عنها ويعرضون، بل يفرون من الهدى والخير ووسائل النجاة المعروضة عليهم فيها، ويرسم لهم صورة مضحكة تثير السخرية والعجب من أمرهم الغريب: {فما لهم عن التذكرة معرضين؟ كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة؟}.. ومشهد حمر الوحش وهي مستنفرة تفر في كل اتجاه، حين تسمع زئير الأسد وتخشاه.. مشهد يعرفه العرب. وهو مشهد عنيف الحركة. مضحك أشد الضحك حين يشبه به الآدميون! حين يخافون! فكيف إذا كانوا إنما ينفرون هذا النفار الذي يتحولون به من آدميين إلى حمر، لا لأنهم خائفون مهددون بل لأن مذكراً يذكرهم بربهم وبمصيرهم، ويمهد لهم الفرصة ليتقوا ذلك الموقف الزري المهين، وذلك المصير العصيب الأليم؟! إنها الريشة المبدعة ترسم هذا المشهد وتسجله في صلب الكون، تتملاه النفوس، فتخجل وتستنكف أن تكون فيه، ويروح النافرون المعرضون أنفسهم يتوارون من الخجل، ويطامنون من الإعراض والنفار، مخافة هذا التصوير الحي العنيف! تلك هيئتهم الخارجية. {حمر مستنفرة، فرت من قسورة} ثم لا يدعهم حتى يرسم نفوسهم من الداخل، وما يعتلج فيها من المشاعر: {بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة}.. فهو الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يختاره الله ويوحي إليه؛ والرغبة الملحة أن ينال كل منهم هذه المنزلة، وأن يؤتى صحفاً تنشر على الناس وتعلن.. ولا بد أن الإشارة هنا كانت بصدد الكبراء الذين شق عليهم أن يتخطاهم الوحي إلى محمد بن عبد الله، فقالوا: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم؟}.. ولقد علم الله أين يضع رسالته واختار لها ذلك الإنسان الكريم الكبير العظيم. فكان الحنق الذي يغلي في الصدور، والذي يكشف عنه القرآن، وهو يعلل ذلك الشماس والنفار! ثم يستمر في رسم صورة النفوس من داخلها، فيضرب عما ذكره من ذلك الطمع والحسد، ويذكر سبباً آخر للإعراض والجحود. وهو يردع في نفوسهم ذلك الطمع الذي لا يستند إلى سبب من صلاح ولا من استعداد لتلقي وحي الله وفضله: {كلا! بل لا يخافون الآخرة}. وعدم خوفهم من الآخرة هو الذي ينأى بهم عن التذكرة، وينفرهم من الدعوة هذه النفرة. ولو استشعرت قلوبهم حقيقة الآخرة لكان لهم شأن غير هذا الشأن المريب! ثم يردعهم مرة أخرى، وهو يلقي إليهم بالكلمة الأخيرة، ويدعهم لما يختارون لأنفسهم من طريق ومصير: {كلا! إنه تذكرة. فمن شاء ذكره}.. إنه، هذا القرآن الذي يعرضون عن سماعه، وينفرون كالحمر، وهم يضمرون في أنفسهم الحسد لمحمد، والاستهتار بالآخرة.. إنه تذكرة تنبه وتذكر. فمن شاء فليذكر. ومن لم يشأ فهو وشأنه، وهو ومصيره، وهو وما يختار من جنة وكرامة، أو من سقر ومهانة.. وبعد أن يثبت مشيئتهم في اختيار الطريق يعقب بطلاقة المشيئة الإلهية، وعودة الأمور إليها في النهاية. وهي الحقيقة التي يحرص القرآن على تقريرها في كل مناسبة لتصحيح التصور الإيماني من ناحية طلاقة المشيئة الإلهية وشمولها الكامل الأخير، وراء جميع الأحداث والأمور: {وما يذكرون إلا أن يشاء الله، هو أهل التقوى وأهل المغفرة}.. فكل ما يقع في هذا الوجود، مشدود إلى المشيئة الكبرى، يمضي في اتجاهها وفي داخل مجالها. فلا يقع أن يشاء أحد من خلقه ما يتعارض مع مشيئته، ومشيئته تسيطر على أقدار الوجود كله، وهي التي أنشأته وأنشأت نواميسه وسننه، فهو يمضي بكل ما فيه وكل من فيه في إطار من تلك المشيئة المطلقة من كل إطار ومن كل حد ومن كل قيد. والذكر توفيق من الله ييسره لمن يعلم من حقيقة نفسه أنه يستحق التوفيق. والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. فإذا علم من العبد صدق النية وجهه إلى الطاعات. والعبد لا يعرف ماذا يشاء الله به. فهذا من الغيب المحجوب عنه. ولكنه يعرف ماذا يريد الله منه، فهذا مما بينه له. فإذا صدقت نيته في النهوض بما كلف أعانه الله ووجهه وفق مشيئته الطليقة. والذي يريد القرآن أن يطبعه في حس المسلم هو طلاقة هذه المشيئة، وإحاطتها بكل مشيئة، حتى يكون التوجه إليها من العبد خالصاً، والاستسلام لها ممحضاً.. فهذه هي حقيقة الإسلام القلبية التي لا يستقر في قلب بدونها. وإذا استقرت فيه كيفته تكييفياً خاصاً من داخله، وأنشأت فيه تصوراً خاصاً يحتكم إليه في كل أحداث الحياة.. وهذا هو المقصود ابتداء من تقرير طلاقة المشيئة الإلهية وشمولها عقب الحديث عن كل وعد بجنة أو نار، وبهدى أو ضلال. فأما أخذ هذا الإطلاق، والانحراف به إلى جدل حول الجبر والاختيار، فهو اقتطاع لجانب من تصور كلي وحقيقة مطلقة، والتحيز بها في درب ضيق مغلق لا ينتهي إلى قول مريح. لأنها لم تجئ في السياق القرآني لمثل هذا التحيز في الدرب الضيق المغلق! {وما يذكرون إلا أن يشاء الله}.. فهم لا يصادمون بمشيئتهم مشيئة الله، ولا يتحركون في اتجاه، إلا بإرادة من الله، تقدرهم على الحركة والاتجاه. والله {هو أهل التقوى}.. يستحقها من عباده. فهم مطالبون بها.. {وأهل المغفرة}.. يتفضل بها على عباده وفق مشيئته. والتقوى تستأهل المغفرة، والله سبحانه أهل لهما جميعاً. بهذه التسبيحة الخاشعة تختم السورة، وفي النفس منها تطلع إلى وجه الله الكريم، أن يشاء بالتوفيق إلى الذكر، والتوجيه إلى التقوى، والتفضيل بالمغفرة. {هو أهل التقوى وأهل المغفرة}..
|